عندما نتطرق إلى قضية الانتشار النووي ومراقبة الأسلحة، بما تثيره من مشاكل وتوترات على الصعيد العالمي، كما يظهر ذلك بوضوح من خلال أزمة الملف النووي الإيراني الذي مازال يراوح مكانه رغم المفاوضات المتواصلة، فإننا نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري يقفز إلى الواجهة ويفرض نفسه فرضاً: فإما أن نشرع في اجتراح الحلول المبتكرة للتعامل مع الانتشار النووي خارج ما هو مطروح حالياً، أو ستتعرض الضمانات الدولية في المجال النووي إلى التآكل ويعلوها الصدأ. وربما لهذا السبب كنت دائماً أدعو إلى اعتماد مقاربات جديدة في العديد من المجالات ذات الصلة بالانتشار النووي والسعي إلى الحد منه في عالمنا المضطرب. أولاً: لابد من إعادة التأكيد على ضرورة التزام الدول بمبدأ نزع السلاح بما يحتمه ذلك من حاجة إلى تخلي الدول عن استراتيجياتها الأمنية القائمة على حيازة الأسلحة النووية. وما لم تقتنع الأطراف الدولية بجدوى نزع السلاح النووي وتغيير استراتيجياتها الدفاعية، فلست أعرف كيف يمكننا إقناع دول أخرى بالتخلي عن طموحاتها النووية. ثانياً: لا مناص من إحكام المراقبة على الأجزاء الحيوية من دورة إنتاج الوقود النووي التي يمكن توجيهها لصناعة سلاح الدمار الشامل، ولن يتأتى ذلك إلا عبر وضع آليات متفق عليها لمراقبة المواقع النووية وضمان عدم توظيف إنتاج الطاقة لأغراض عسكرية. فبتشديد المراقبة الدولية على عمليات تخصيب اليورانيوم أو فصل البلوتونيوم، نستطيع التقليل من مخاطر الانتشار النووي. وبموازاة ذلك يمكننا أيضاً التفكير في إحداث آلية تضمن وصول إمدادات الوقود النووي إلى الدول التي أثبتت حسن نيتها في استعماله ونأت بنفسها عن الشبهات، ولمَ لا نفكر في إنشاء بنك للوقود النووي يخضع لمراقبة وإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وتبقى الإشكالية الثالثة في التعامل مع مسألة الانتشار النووي، وهي الأكثر صعوبة، هي طريقة التعاطي مع الدول الثلاث التي مازالت خارج معاهدة الانتشار النووي ولم توقع على بنودها متمثلة في باكستان والهند اللتين تملكان ترسانات نووية مؤكدة، بالإضافة إلى إسرائيل التي تنتهج سياسة الغموض، رغم الاعتقاد الواسع بامتلاكها السلاح النووي! إلا أنه مهما بلغ بنا التفاؤل والحماسة إزاء مستقبل الانتشار النووي لن توافق الدول الثلاث على ترك أسلحتها النووية، أو حذف الخيار النووي من استراتيجيتها الأمنية خارج إطار إقليمي أو دولي شامل لمراقبة التسلح والحد من انتشاره. ولن تجدي الطريقة التقليدية في التعامل مع تلك الدول على أنها خارجة عن القانون في إقناعها باحترام التزاماتها الدولية والامتناع عن نشر السلاح النووي. وهذا ما يحيلنا على إشكالية أخرى انبثقت عن الاتفاق الأخير الموقع بين الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء الهندي مانهومان سينج، بخصوص تبادل التكنولوجيا النووية بين الولايات المتحدة والهند. وبينما يرى البعض أن الصفقة النووية مع الهند ستساعدها على إنتاج المزيد من الأسلحة النووية وتكافئها على تطويرها للسلاح النووي، كما أنها ستضفي شرعية على وضعها الحالي، يذهب البعض الآخر إلى أن الصفقة ستقود بالعكس إلى انهيار البرنامج النووي الهندي من تلقاء نفسه بسبب القيود المفروضة على عملية نقل المعدات والخبرة من المجال المدني إلى المجال العسكري. ورغم الاختلاف في الآراء إزاء الصفقة الأميركية الهندية ومقاصدها الحقيقية، بين تكريسها للبرنامج النووي الهندي أو الحد من طابعه العسكري، أود توضيح الآتي: أولاً لا يوجد ضمن معاهدة عدم الانتشار النووي ما يمكن أن نطلق عليه الدول النووية "الشرعية" وتلك "غير الشرعية". والواقع أن وجود خمس دول معترف بامتلاكها للسلاح النووي ليس سوى مرحلة انتقالية؛ فاتفاقية عدم الانتشار النووي لا تسبغ الشرعية بأي حال من الأحوال على تلك الدول كما لا تمنحها وضعاً نووياً دائماً. والأكثر من ذلك أن الصفقة الأميركية الهندية لا تضيف أي جديد إلى الوضع النووي للهند إذ هي محايدة في طبيعتها ولا تسبغ الشرعية على برنامج التسلح النووي للهند كما لا تنفي الواقع النووي الهندي طالما أن نيودلهي لم توقع على معاهدة عدم الانتشار النووي وبالتالي لم تنتهك أي التزام قانوني. ومن المهم أيضاً ونحن نتطرق إلى البرنامج النووي الهندي ألا نغفل التداعيات الإيجابية لمثل هذا البرنامج على المجالات السلمية. فالهند بلد شاسع وتشكل سدس عدد سكان العالم، وهي لذلك متعطشة أكثر من غيرها للطاقة لتلبية حاجيات اقتصادها المتنامي والاعتماد على أكثر التكنولوجيات النووية تطوراً. ومن هذا المنطلق تسعى الهند إلى تطوير علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة وباقي دول العالم، لاسيما وأنها تعتبر شريكاً عالمياً موثوقاً به من أجل تحسين قدراتها النووية في المجال المدني الذي لا أعرف لماذا يتم استثناؤه من مجال التعاون بين الدول. ومع ذلك فدخول الهند إلى حلقة التعاون النووي مع الولايات المتحدة لا يعفيها من الوفاء بالتزاماتها الدولية، لاسيما الإرشادات التي تفرضها مجموعة الدول المزودة للتكنولوجيا النووية المكلفة بتنظيم الحصول على التقنية النووية ومراقبة مجالات استعمالها. والأكثر من ذلك أن الهند ستكون مطالبة بفتح مرافقها النووية للمراقبة الدولية للتأكد من التزامها بمعايير الأمن والسلامة. ولا ننسَى أيضاً أن نيودلهي أبدت تأييدها لمعاهدة وقف المواد الانشطارية انسجاماً مع المطالب الدولية. وفي هذا الإطار علينا تشجيع الهند، كما الولايات المتحدة أيضاً، على الانضمام إلى هذه الاتفاقية من أجل إنجاحها وضمان مشاركة دول أخرى. وعندما تحدثت سابقاً عن الحلول المبتكرة التي تخرج عن المألوف، فإن الاتفاقية الموقعة بين الهند والولايات المتحدة بخصوص تبادل التكنولوجيا النووية هي إحدى الأمثلة الواضحة على تلك الحلول. فالهند ستحصل بموجبها على التقنية التكنولوجية المتطورة لانتشال 500 مليون من سكانها من وطأة الفقر وسد حاجياتها من الطاقة، لكن في الوقت نفسه ستعمل على احترام التزاماتها الدولية بعدم نشر الأسلحة النووية. والجدير بالذكر أننا بتلمسنا لخطواتنا نحو مستقبل خالٍ من الأسلحة النووية، وببحثنا الدؤوب عن الاستراتيجيات الكفيلة بالحد من الانتشار النووي لابد من إشراك باكستان وإسرائيل في جهود مراقبة عدم الانتشار. ولكي تنجح الجهود الدولية مع الدولتين علينا معالجة مخاوفهما الأمنية ومحاولة طرح حلول بعيدة عن الخيار النووي ما قد يستغرق بعض الوقت والجهد. وهي أمور متوقعة على كل حال، لأنني لا أعتقد أن أحداً انخرط في جهود منع الانتشار النووي قال مرة إنها ستكون نزهة في صبيحة يوم مشمس. محمد البرادعي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المدير العام لوكالة الطاقة الذرية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"